التعليم.. إصلاح قد لا يأتي

المتأمل لكرونولوجيا ما يسمى “إصلاح التعليم” بالمغرب لن تخطئ نظرته تضارب وتناقض مخرجات البرامج والمخططات الإصلاحية المعتمدة، وكأنها تبتغي من الإصلاح ظاهره دون النفاد إلى جوهره. ولنا في مرور سريع بأهم محطات هذه الإصلاحات، تذكرة وعبرة.

تميزت فترة الاستعمار بإحداث المدرسة المغربية الحرة التي كان لها دور تاريخ مهم في حشد همم الشعب المغربي ومقاومة الاستلاب الثقافي المتأتي أساسا من مدارس الأعيان التي أنشأتها سلطة الحماية، وكان للروح الوطنية العالية والرغبة القوية في المساهمة في تكوين أطر مغربية دور فعال في نجاحها رغم بساطة أدوات ووسائل اشتغالها. بعيد الاستقلال، ستستمر هذه الازدواجية وستتركز في تيارين كبيرين: التعريب والفرنسة. سيكون على الدولة الحسم في الأمر وفي طريقة التعاطي مع اللغات لكنها لم تفعل، كما سنرى، ليستمر الشأن التعليمي يتجاذبه أنصار التعريب تارة وأنصار الفرنسة طورا، إضافة إلى تيارات أخرى ترى في المؤسسات التعليمية مشتلا خصبا لتفريخ أتباعها ونشر أدبياتها وإيديولوجياتها، لذلك نجد أصواتا تنادي بأنماط تعليمية كثيرة أهمها: الإسلامي والأصيل والحر…

للإجابة على الأسئلة الملحة وبلورت تصور شامل حول التعليم، أحدث المغرب اللجنة العليا لإصلاح التعليم سنة 1957، وضمت ممثلين عن التيارات الأساسية المؤثرة في نظام التعليم، وكان من أهم مخرجاتها: التعريب والتوحيد والمغربة، وهي عناصر ستتجاذبها القوى السياسية والفاعلة في المجتمع لتجعلها غير قابلة للتطبيق. في سنة 1958، ستولد لجنة ثانية على نعش اللجنة الأولى لتتبنى توصيات تتعارض في مجملها مع ما سبق التوافق حوله، كالعودة إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية والاهتمام بتكوين الأطر على حساب التعميم. في السنة الموالية 1959، سيتم إحداث لجنة ثالثة في عهد حكومة عبد الله إبراهيم وصدر عنها: تعميم التعريب وتكوين الأطر وإعادة هيكلة الوزارة وتأسيس المجلس الأعلى للتعليم. لكن مخرجاتها لم تجد طريقها نحو التطبيق وستعترضها مشاكل جمة: قلة الأطر الوطنية، غياب التجهيزات…

إقرأ أيضا :  بايتاس: الحكومة تواصل دعم "المقاصة" إلى حين إحصاء الفئات الفقيرة بالمغرب

هذه الشواهد لثلاث لجن إصلاح في ثلاث سنوات متتالية، تلخص ما سيتأتى بعدها من مخططات وبرامج ولجن، وكانت كافية لبلورة تصورات متناقضة حول قضية محورية ليس فقط لبلد خرج لتوه من الاستعمار وإنما أيضا لمستقبله وسيادته، كما هو الشأن لنمو وتقدم أي بلد في العالم، سنغافورة نموذجا. تمخضت عن اللجن السالفة، ثلاث قضايا رئيسة، شكلت حجرا عصيا على النزع في حذاء الإصلاح ولا يزال أثرها بارزا إلى الآن: مشكل اللغة والتعميم والكلفة المالية، وسيتجلى هذا الأمر بوضوح في ما سيأتي من حُزم الإصلاح.

ما بين سنتين 1960 و1964، سيعرف المغرب مخططا خماسيا تميز بتقليص ميزانية التعليم وإعادة النظر في مبدأ التعميم والحد من نسبة ولوج للتعليم الإعدادي، وتسقيفها في %40، مما حرم عددا هائلا من التلاميذ من متابعة دراستهم والاكتفاء بالمرحلة الابتدائية. الهاجس المالي سيستمر حضوره في المرحلة التالية، حيث سيتم إنشاء سلكين في التعليم الابتدائي؛ أحدهما يعهد تمويله إلى الجماعات والآخر للدولة، لكن هذا المخطط لم ير النور بدوره. في الشأن اللغوي، تم تجميد التعريب في التعليم الابتدائي والحث على تلقين المواد العلمية باللغة الفرنسية إلى جانب مادة التاريخ والجغرافيا. سيستمر الحال على ما هو عليه إلى غاية مناظرة إفران سنة 1970.

سيعرف المغرب مخططا خماسيا ما بين 1968 و1973، وتخلله انعقاد مناظرة إفران الأولى حول إصلاح التعليم وشهدت نقاشات حادة وصراعات كثيرة. أسفرت في ختامها عن إعادة طرح المبادئ الأساسية، أهمها: التعريب والتعميم. إجرائيا، نصت على عدم تعريب السلك الابتدائي وتدريس الحساب باللغة الفرنسية، وذهبت أيضا إلى ضرورة تعريب مادتي التاريخ والجغرافيا والفلسفة. في مجال التكوين، تم إنشاء مراكز تكوين الأساتذة في تخصصات: الرياضيات والفرنسية بالنسبة للسلك الإعدادي. بعد ذلك، سينطلق برنامج استعجالي لإصلاح التعليم خلال المخطط الخماسي الموالي، ما بين 1973 و1977، وتمحور حول: حاجيات التدريس والحد من نسبة الولوج للتعليم العالي.

إقرأ أيضا :  من المسؤول على توالي فواجع الكحول؟!

ما بين سنتي 1978 و1980، سينطلق مخطط ثلاثي آخر، وسيتأثر بسياسة التقشف التي نهجها المغرب. ثم سيأتي بعده، المخطط الخماسي لسنوات 1981 – 1985، وخلاله سيتم تعريب تدريس المواد العلمية في الابتدائي والإعدادي والثانوي ومغربة الأطر. كان لافتا للنظر، تأثير برنامج التقويم الهيكلي على الميزانية المرصودة للتعليم. كما عرف أيضا إحداث لجنة وطنية لإصلاح التعليم ومشروع لإصلاح التعليم لم يخرج للوجود. في هذه الفترة أصدر البنك الدولي تقريرا شخص فيه أعطاب النظام التعليمي المغربي ورسم له صورة قاتمة، كما رصد تضاعف ميزانيته إلى أربع مرات ما بين سنتي 1975 و1985، لذلك سيعود المغرب إلى نهج التقشف في الإصلاحات إرضاء للدائنين الدوليين.

فترة التسعينات تميزت بإحداث مشروع الشعب تخصص لغات، وكان يهدف إلى تقوية تدريس اللغة الفرنسية وتدريس مادة التاريخ والجغرافيا باللغة الفرنسية. قوبل هذا المشروع بمعارضة شديدة من لدن تيارات اعتبرت ذلك تراجعا عن تعريب التعليم الثانوي. بعد ذلك، سيستمر البياض إلى غاية العشرية التي ستعرف تطبيق ما بات يعرف بالميثاق الوطني للتربية ما بين 2000 و2010، الذي وضعت مشروعه لجنة خاصة سنه 1999. كان الهدف منه تدارك الكم الهائل من التراكمات السابقة والقطع مع أنماط التدابير الفائتة لكنه لم يحقق النتائج المرجوة منه على أرض الواقع رغم الالتفاف حوله. ستظل مسألتي اللغة ومجانية التعليم محط تجاذب وصراع بين الفرقاء. ما بين سنتي 2009 و2012، سيأتي المخطط الاستعجالي، معلنا فشل تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وسيعرف هو الآخر فشلا ذريعا رغم الأموال الهائلة المرصودة له. ثم بعد ذلك، ستأتي الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 وستترجم في قانون إطار من أجل النأي بالتعليم عن الصراعات السياسية والإيديولوجية وهو أمر لم يُقطع معه إلى حدود كتابة هذه الأسطر.

إقرأ أيضا :  السموني يبرز العناية الملكية بالاستثمار

هذه الإطلالة السريعة على أهم الإصلاحات التي عرفها نظام التعليم بالمغرب منذ الاستقلال إلى الآن، تؤكد أن الشأن التعليمي بالمغرب ظل يراوح مكانه، ولم يعرف أية طفرة تجعله قاطرة للتنمية ولم يستطع الخروج من دوامة الاستغلال السياسي والإيديولوجي. لتبقى بعد كل هذه المدة قضايا ملحة بدون حسم وعرضة لتجاذبات وصراعات لا تنتهي ليس همها الرقي بالتعليم لبناء الإنسان: المسألة اللغوية مثالا. كما أنه لم يتخلص بعد من المنطق المحاسباتي الضيق، والشاهد هنا قضية الأساتذة المتعاقدين (أطر الأكاديميات). في انتظار إرادة حقيقية لتغيير جذري على الأرض، سيتم إقرار إصلاح ثم يأتي بعده إصلاح يفسده. ويبقى السؤال الجوهري، في نظرنا، هل استعصى على المغرب إصلاح نظامه التعليمي بما يجعله يرتقي إلى مصاف الدول المتقدمة أم أن هناك غاية نجهلها؟

#التعليم. #إصلاح #قد #لا #يأتي

زر الذهاب إلى الأعلى