في غُدوّك ورواحك

تصيح الديكة غير مصدقة أن الناس مازالوا نياما. تتساءل في استغراب: كيف يمكن لهؤلاء المجانين أن يضيعوا على أنفسهم لحظة خالدة مثل هذه؟ تعيد الصياح مرات ومرات لعل حياة تعود لمن ينادى عليه دون جدوى. تخبر بصياحها بأن موعدك قد بات قريبا، ومن الحمق أن يكون هؤلاء غائبين، وألا يكونوا جميعا في انتظارك.

من يدري؟ لعله يكفيكِ أن تجديني وحدي أنتظركِ، كما في كل مرة، وبحب منقطع النظير.

خيوطك الذهبية تتراءى من بعيد. وموكب ميثرا العظيم يسبقك، وينبئ بقدومك الجليل، ويرافقك على الدوام، ويتبعك خطوة خطوة وهو يجري مثلك، ولا يلهث، إلى مستقر له.

تمدين يدك اللطيفة، مثل أم رؤوم، إلى جسد فتي، وتتحسسين بأناملك تفاصيله وأشياءه. تهزينه هزا خفيفا إلى أن يفتح عينيه، ويمدّ أطرافه في كل اتجاه، ومن بعيد تُسمع فرقعة عظامه وهي تعود إلى أماكنها وتستوي. وكالعادة يكون مبللا بالندى، ويفوح من أطرافه عطر التراب. يهرع إليك بذراعين مفتوحين، وهو يسعى إلى عناقك عناقا طويلا كأنه لن ينتهي أبدا.

إقرأ أيضا :  منظمات دولية تستنكر انتهاك الجزائر حقوق الإنسان بحل جمعيات مدنية عريقة‬

وحدك قادرة على أن تجعلي دبيب الحياة المقدس يدب في كل شيء، وأن تجعلي صوت الجميع يتعالى، ويتوحّد، ويتردّد صداه في كل مكان: صباح الخير.

تبدين رائعة حقا بثغرك الضاحك على الدوام. ضحكة، مثل تلك التي يقول عنها الشاعر، تمتد من الأذن إلى الأذن. تسيرين بخطى وئيدة، واثقة، في مسار بطول السماء وعرضها، ولا تتعبين، ولا تملين، ولا تعرفين سكونا، ولا راحة. عطاؤك، مثلك، بلا حدود، وبلا حساب، وبلا مقابل. يا لسخائك!

تظهرين متلألئة في كامل أبهتك مثل عروس في صباحها الأول، في براءتها وطهارتها الخالدة، وعلى جبينها قبس من حياء يشع نورا ملائكيا. يا إلهي، أي قول هذا؟ أي تشبيه أخرق هذا؟

بهاؤك يعمي الأبصار بجماله وجلاله، ويجعل كل التشبيهات تافهة وفارغة من المعنى، ولا تفصح عن أي شيء. كل تشبيه يخصك يفتقر إلى الصواب، والصدق، والحق أيضا، سواء كنتِ أنتِ المشبه أو المشبه به.

أتعرفين كم أنت مخيفة؟ نعم، بكل تأكيد، أنت كذلك. تنتهكين الحُجب، وتكشفين الأسرار، دون وجل. كل سر، في حضرتك، يبوح بسره الدفين، ويُكشف كل شيء أمام الملأ، وكل خفي يظهر ويتجلى.

كل شيء يجعلك مرهوبة الجانب. وإلى حزب المظلومين تنتصرين. تقفين إلى جانبهم في يقين وثبات. وبفضلك يستعيد كل واحد من هؤلاء شكله، ولونه، وهويته، فيحق له أن يحتفي باختلافه، وبما يضيفه إلى العالم حتى يصير عالما يزخر، أكثر فأكثر، بالغنى والتعدد والتنوع.

إقرأ أيضا :  الارتفاقات القانونية في قوانين التعمير - موقع القانون والعقار

ما أبدع يدك وأرقها وهي ترسم بماء المطر المنهمر على لوحة السماء العريضة. تمزجين ألوانا بألوان تثير في النفس الانشراح والإعجاب والإعجاز. بفضلك يصير العالم متحفا كبيرا مفتوحا أمام الجميع، ودون تمييز.

تختفين بين الفينة والأخرى كما لو أن بك خجل، أو لتعيدي، بعيدا عن الأعين، ترتيب تفاصيل زينتك. لا حاجة لمن هي مثلك إلى أدوات زينة، أو إلى مجوهرات، فأنت، في حد ذاتك، قرص هائل من ذهب.

في خزانتك ملابس جميلة لكل فصل. تبدين حارة في الصيف، ودافئة في الخريف، وباردة في الشتاء، ومعتدلة في الربيع. وعلى يديك يتجدد شباب الأشياء، والكائنات، وتولد الأرض من رحم الأرض.

في المساء تبتلعك آلهة البحر، أو تلتهمك شياطين الصحراء، أو تسرقك غيلان الجبل. ولأنك رائعة في كل حالاتك، تصبغين النهار في رواحكِ بلون أرجواني فيبدو مثل كأس من نبيذ معتّق. تتبعك العيون، وتتابعك، إلى أن تطوي حياته بيديكِ مثل طي أوراق الكتاب. يفتح العدم فاه، ويغرق كل شيء في الظلام.

لا يبقى، في النهاية، إلا نيران مقدسة تقدح شرارتها في أفئدة الشعراء وتهبها، وشوق إليكِ ديدنه أن يتجدّد باستمرار.

إقرأ أيضا :  23 سنة من حكم الملك محمد السادس .. هذه أهم المحطات والإنجازات

#في #غدوك #ورواحك

زر الذهاب إلى الأعلى