مازالت القارة الإفريقية محط “تنافس وساحة صراع” ما فتئ يشتد بين قوى عالمية كبرى؛ ففي وقت بدأ النفوذ الفرنسي يتراجع فعليا في دول إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الساحل، بدءا من أراضي مالي وليس انتهاء في جارتها بوركينافاسو التي أمهلت القوات الفرنسية في إشعار مسبق شهرا واحدا قبل مغادرتها البلاد، تترقب عواصم إفريقية عديدة -ضِمنها المغرب- حلول وزير خارجية روسيا في جولة إفريقية بداية من الأسبوع المقبل.
واشنطن تتطلع، أيضاً، في زمن إدارة الرئيس بايدن، إلى “مراجعة” السياسة الأمريكية تجاه “القارة السمراء” التي غابت أهميتها الإستراتيجية في منظار البيت الأبيض في عهد ترامب؛ وكانت قمة القادة الأمريكية–الإفريقية، منتصف دجنبر الماضي، دليلا دامغا بصَم عودة قوية للدفاع عن مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية في المنطقة.
من جهته، يتحرك “الدب الروسي”، عبر أداة نفوذه المتمثلة في “مجموعات فاغنر”، مدعوما بجهود دبلوماسية متسارعة للبحث عن موطئ قدم استثمارية وسط رمال صحراء ساخنة ومضطربة، لا تتوقف عن التموج تبعاً لبوصلة التحولات الجيوسياسية في منطقة تعرف تمددا واسعا للجماعات المسلحة ذات الخلفيات الإرهابية.
في سياق متصل، نقلت “فرانس برس” عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأحد، أنه ينتظر “توضيحات” من بوركينافاسو بشأن طلبها المحتمل انسحاب القوات الفرنسية من أراضيها في غضون شهر؛ في مؤشر واضح على “استغراب” قصر الإليزيه انفلات بساط السيطرة من تحت أقدامه في مستعمراته التاريخية.
وبعد أشهر من اضطراب الأوضاع، بحثت واغادوغو خيار إقامة شراكة بناء على “تقارب محتمل” مع روسيا. وقال رئيس الوزراء البوركينابي، أبولينير يواكيم كييليم دو تامبيلا، الأسبوع الماضي، عقب لقائه السفير الروسي أليكسي سالتيكوف، إن “روسيا هي خيار المنطق في هذه الدينامية”، معتقدا بضرورة “تعزيز الشراكة”، بعد زيارة سرية إلى موسكو مطلع دجنبر الفائت.
وليست بوركينافاسو وحدها المعنية بتقهقر نفوذ باريس، بل سبق للمجلس العسكري الحاكم في مالي المجاورة شمالاً لبوركينافاسو أن دعا القواتِ الفرنسية إلى مغادرة البلاد، قبل أن يرحل فعليا، منتصف غشت 2022، آخر العسكريين الفرنسيين في “قوة بُرخان لمكافحة الجهاديين” عن تراب مالي بعد وجود دام تسعة أعوام، وفق ما أعلنته حينها وزارة الجيوش الفرنسية، على خلفية علاقات متوترة بين باريس والمجلس العسكري الحاكم في باماكو.
تدافُع وأجندة متضاربة
محمد بنحمو، رئيس “المركز المغربي للدراسات الإستراتيجية”، اعتبر أن “التنافس الكبير مازال سمة الأوضاع في إفريقيا في علاقتها بقوى عالمية”، واصفاً ما يعتمل خلال السنوات القليلة الماضية بـ”التدافع بين العديد من القوى الخارجية، سواء قوى كبرى أو متوسطة ذات أجندة دولية متضاربة ومتعددة”.
وتابع بنحمو، في تصريح لجريدة هسبريس، بأن “الأمر لم يعد مقتصرا فقط على دول مستعمِرة سابقاً تحاول استمرار الحفاظ على نفوذها في قارة تتصدر غنى الموارد الطبيعية والطاقات البشرية، بل يهم كذلك رغبة دول ناشئة تسعى إلى التمكن من موطئ قدم داخل القارة”، لافتا إلى أنها “القارة الوحيدة التي تتوفر على خيرات طبيعية هائلة”.
“أغلب دول العالم، سواء تلك المتقدمة أو الناشئة، في حاجة ماسة إلى ثروات إفريقيا وخيراتها (لاسيما المواد الأولية) من أجل ضمان استمرارية نموها في عالم متعدد الأزمات”، يشدد الخبير ذاته، مؤكدا أن “الاستفادة منها يتيح تموقعاً وازناً على الخريطة الجيوسياسية الدولية”.
روسيا بديلاً لفرنسا؟
تعليقاً على التحركات الروسية الدبلوماسية، أورد الخبير في قضايا الساحل والصحراء أن “روسيا في تنافسها مع الدول الغربية حاولت أن تشتغل على تزايد تدهور صورة وسمعة التواجد الفرنسي”، مؤكدا أن “موسكو حاولت أن تقدم نفسها للمسؤولين الأفارقة بديلاً لفرنسا من خلال الاعتماد على خدمات شركة فاغنر من الناحية الأمنية”، قبل أن يلفت إلى “تساؤلات عديدة تلف دور فاغنر الذي أصبح يشكل مصدر قلق بالمنطقة”.
بنحمو زاد مفسرا: “يعزى تراجُع نفوذ فرنسا القوي في دول إفريقيا الغربية (في بعض دول الساحل والصحراء)، وأحيانا انسحاب كامل لقواتها، إلى الحضور الروسي المتزايد بالأساس، الذي لوحظ تصاعده منذ 2021″؛ قبل أن يردف بأن “النموذج الروسي الذي يطرح نفسه كبديل يثير اهتمام كثير من الدول الإفريقية، التي ربما قد تسير على النهج الذي اعتمدته مالي وبوركينافاسو”.
وخلص رئيس المركز البحثي ذاته إلى أن “أمريكا تبدو كما لو أنها لم تجد بعد الأسلوب الذي يمكن أن تحضر به في إفريقيا دون إثارة ردود فعل مناهضة لقوتها”، مؤكدا أن العودة الأمريكية إلى قادة إفريقيا هدفها “مواجهة الحضور الصيني القوي، وإنْ كان الأخير لا يثير الكثير من الجدل، لأن بكين حاضرة في إفريقيا بقوة وبصمتٍ في الآن نفسه”، وختم بالقول: “لا تريد واشنطن أن تترك القارة الإفريقية مجالاً للصين ولا لغيرها من القوى”، مستحضرا “تعزيز حضورها في مناطق الساحل من خلال قواعد استخباراتية أو جوية”، ومذكرا بأنها “قوة عظمى تبني علاقات اقتصادية مع العديد من دول القارة التي تتخبط في الأزمات”.
#قوى #دولية #تتنافس #حول #النفوذ #بإفريقيا #خبير #روسيا #تخطط #لتعويض #فرنسا