مثّل محمد عابد الجابري علامة فكرية ملأت الدنيا وشغلت الناس في ساحة الفلسفة والفكر العربي المعاصر، فصحت فيه هذه العبارة الأثيرة: “رجل كثر القول منه وفيه”.
كثر القول فيه إلى درجة يصعب علينا مواكبة هذا القول والإحاطة به، فهو يتطلب لوحده عملا بيبليوغرافيا قد يشمل مكتبة شبه قائمة بذاتها. كل هذا الجدل الكثير حول الجابري ومشروعه يرجع، في نظرنا، إلى كونه جعل من أسئلة الحداثة والموقف من التراث أسئلة فكرية وسياسية ملحة. لقد نقل الفلسفة والفكر إلى قلب السياسة والفعل، مبينا أن الإشكالات الفكرية والفلسفية هي في العمق أسئلة سياسية؛ بل إن قدر النقد الفلسفي، في نظره، هو أن يكون ضميرا للسياسة. هكذا نظر الجابري وهكذا فكر وكتب، وهذا ما تعلمنا إياه كتاباته الغزيرة.
أقول إنه بقدر ما كثر القول فيه كثر القول منه أيضا؛ لأنه كان صاحب إنتاج غزير شمل مجالات عديدة من الإبداع الفكري، من إشكالات الفلسفة إلى القضايا التربوية، ومن أسئلة السياسة إلى المسألة الدينية، مرورا بالتراث وقضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر. إنتاج عز نظيره في مقاربة إشكاليات التراث والحداثة في علاقتهما بالواقع السياسي والثقافي في العالم العربي المعاصر، وقد بذل الراحل في ذلك جهدا استثنائيا استطاع من خلاله تحقيق أمرين متوازيين:
الأمر الأول هو اكتشاف منهجي جديد في قراءة التراث، كما تجلى ذلك بوضوح في مقدمة كتابه “نحن والتراث”، وفي المؤلفات التي تلت ذلك. هذا الاكتشاف المنهجي مكنه من التحرر مما سماه سلطة “النموذج/ السلف” وآلياته في التفكير التي يكرسها وتكرسه إلى أن جعلت منه إطارا مرجعيا، به يفكر العربي ويقيس عليه وفي ضوئه يقرأ ويؤول، سواء أكان هذا العربي ذا توجه سلفي أم ليبرالي أم ماركسي. هذا “النموذج/ السلف” هو ما رفضه الجابري بشدة ووضوح، واعتبره المسؤول عن عوائق التقدم والإبداع في الفكر العربي؛ لأنه نموذج يجعل مَن يفكر في إطاره يتعامل مع “الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية”، وينصرف بالتالي عن المواجهة الفعلية للواقع الحاضر أمامه، بسبب منهجه القائم على مقايسة الحاضر على الماضي. هذا الأمر دفع الجابري إلى التفكير في ضرورة إعادة بناء شاملة للفكر العربي، منهجا ومضمونا، من أجل تدشين “عصر تدوين جديد” يقطع مع الطريقة التي عولجت بها قضايا النهضة العربية. ولن يتم ذلك، في نظره، إلا بمنهج جديد يقوم على أن “التجديد لا يمكن أن يتم إلا داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرا لنا، وفي الوقت نفسه الحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته”. منهج اعتبره الأساس الذي يساعدنا على تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية.
الأمر الثاني: بلورة أطروحة جديدة قادته إلى صياغة مشروعه الفكري “نقد العقل العربي”، يقول الجابري موضحا أطروحته: “إن المشكل الذي نعاني منه ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة، بل المشكل هو بناء حداثة خاصة بنا انطلاقا من تجديد تراثنا من داخله. وقد رسمت معالم استراتيجية أعتقد أنها كفيلة بتحقيق ذلك، وفي إطارها أشتغل مند كتابي “نحن والتراث””.
لا يمكن، إذن، لحداثة على المستوى العربي أن تجد طريقها السليم إلا بإنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة تشكل المرجعية الأم، التي ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية، فضلا عن المذاهب الدينية والفكرية؛ وهو أمر لن يتم إلا بتحقيق هدفين أساسيين:
الهدف الأول هو إعادة كتابة تاريخنا الثقافي، ولن نتمكن من ذلك، حسب قوله، إلا بـ” تحريره من الزمن السياسي الممزق من خلال إعادة الوحدة له وترتيب أجزائه والكشف عن مواطن التجديد والتقدم فيه…، ومن ثم إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه”. هذه العملية، أي ربط صلة وصل بين حاضرنا وبين أعلى مراحل التقدم في تراثنا، هي التي حاول الجابري القيام بها في مشروعه الفكري حول التراث العربي الإسلامي، حيث أبرز لنا الكيفية التي يمكن من خلالها الارتقاء بتراثنا وجعله يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة، ويشكل بالتالي حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا، الحلقة التي تجعل منه مرجعية لنا، في الاتفاق والاختلاف، في الاقتباس والإبداع، وبدون هذه المرجعية يبقى التراث في الماضي مقطوع الصلة بالحاضر.
الهدف الثاني يتجلى في “التأصيل الثقافي” لقيم الحداثة، ويشرح لنا الجابري ذلك قائلا: “يجب أن نعمل على تبيئة وتأصيل قيم الحداثة وأسس التحديث، في ثقافتنا؛ وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا الديني والأخلاقي، وعينا الثقافي العام”. لم يكتفِ الجابري بالتنظير لهذه المهمة، بل مارسها في عدد من مؤلفاته؛ لأنه يرى أن هذا النوع من التأصيل “الثقافي” يساعدنا على تجاوز الانشطار والازدواجية التي تعيشها ثقافتنا ومجتمعاتنا، فقد يبدو للوهلة الأولى أن التطور الاقتصادي والاجتماعي سيلعب دورا مهما في التخفيف من حدة هذه الازدواجية، لكنها مع ذلك لها بعد ثقافي خاص في مجتمعنا العربي، وهو البعد الذي يمكن إدراكه بسهولة عندما نقارن ثقل الثقافي عندنا، من عقيدة وشريعة ونظام فكر وتقاليد وعادات، وبين ثقله في مجتمعات أخرى، كالمجتمعات الأوربية مثلا، وهذا يعني أن استقلالية “الثقافي” عن “الاقتصادي” يجعل التجديد فيه شرطا أساسيا للتجديد في ميادين أخرى. يقول الجابري في هذا الصدد: “ليس صحيحا أن “الثقافي” عندنا مجرد عنصر في بنية فوقية تابعة للقاعدة المادية للمجتمع، بل الصحيح أن يقال إنه عنصر في بنية كلية يتبادل فيها “الفوقي” و”التحتي” المواقع أو يتداخلان بصورة تجعل من كل منهما فاعلا ومنفعلا في الوقت نفسه”.
إن أطروحة الجابري حول “استراتيجية التجديد من الداخل” القائمة على إنشاء مرجعية ثقافية عربية عامة، تحرر ماضينا الثقافي وتؤصل قيم الحداثة في الوعي الثقافي العربي العام، هي المهمة التي نذر حياته الفكرية لها، حتى صار له خلال الثمانينيات والتسعينيات أتباع كثر ومناصرون بارزون، كثرة هؤلاء تشي بقوة حضوره وتأثيره، ولا نبالغ إن قلنا إن فكره ساد على جيل بأكمله، وأن كل مثقفي تلك الفترة كانت لهم، على الأقل، مرحلة جابرية في حياتهم الفكرية، وأن الرجل غدا منذ ذلك الحين سلطة فكرية وثقافية راسخة.
لهذه الأسباب ترك رحيل محمد عابد الجابري فراغا لا يعوض يدفعنا باستمرار إلى استحضار أطروحته والعودة إليها. وقد بدا ذلك واضحا فيما جرى ويجري في العالم العربي من أحداث جسام تسائل العقل العربي، الذي كشف الجابري تكوينه وبنيته وآليات اشتغاله ماضيا وحاضرا.
#محمد #عابد #الجابري. #عودة #إلى #أطروحته