وقفات مع المدرسة الرمضانية المباركة

الصادق العثمانيالإثنين 20 مارس 2023 – 11:15

من يظن أن شهر رمضان هو للصوم عن الطعام والشراب والجماع وفقط، فهو لم يعرف حقيقة هذه الشهر الفضيل ولم يتذوق رياحينه وروحانيته، فرمضان في الحقيقة هو مصلح اجتماعي كبير.. وعندما نقول هذا، فهو فعلا كذلك، بحيث يحاول ما استطاع أن يغرس فينا قيم الحب والصفح والعفو، والتسامح، ويحاول دائما أن يغرس فينا هذه القيم وألا يبقى في صدورنا أي غلٍ أو حقد على أحد، وهذا الأمر يحقق الراحة النفسية للمتسامح ولطالب العفو، وللمتحابين في جلاله، كما يعلي من قيمته الاجتماعية أمام الآخرين. لأن الإسلام جاء ليقيم أركان المجتمع الإنساني على مكارم الأخلاق والصفات النبيلة التي منها الصفح، والعفو عن الإساءة والأذى، وأن يضع بدل الإساءة إحسانا ومكان الغضب عفوًا وحلما، فالمسلم في هذا الشهر يجب أن يعفو ويبدأ هو بالتسامح ليتحلى بأخلاق كريمة يتزود بها طوال العام. قال تعالى: “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ”.

فشهر رمضان هو المدرسة الأولى والنواة الحقيقية لغرس قيم التعارف والتسامح والمحبة والعفو، تأتي الأسرة كذلك خصوصاً الأبوين، اللذين تخرجا من هذه المدرسة لتربية أولادهما على هذه الخصال الحميدة، وأن يتسامحوا مع أصدقائهم وجيرانهم، والمدرسة أيضا لها دور كبير جداً، حيث يقضي الشباب سنوات طويلة من حياتهم فيها، إضافة إلى الإعلام لما له من دور كبير في المجتمع… فرمضان يأتي لزيارتنا كل عام؛ لكي يقف الإنسان مع نفسه وعيوبه وأمراضه النفسية والاجتماعية وقفات جادة وسط صخب وملهيات الحياة وشهواتها.. فرمضان أجمل فرصة لنزع الغل والبغض والأحقاد من النفوس وفتح صفحة جديدة، والتخلص من الشوائب في القلوب؛ لهذا ينبغي أن يستقبل الصائم شهر رمضان المبارك بالصفح والتسامح مع التغاضي عن المعايب وطي صفحة الماضي وترك التشفي قال سبحانه وتعالى: “وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”. فما أجمل أن تكون هذه القلوب صافية من الغل سليمة من الحقد حتى تكون مؤهلة لنظر الله إليها، لأن القلوب المتشاحنة غير صالحة، وعبادة الصيام في رمضان تربي الصائم على التعالي فوق الخصومات وتزيل من نفسه شجرة الانتقام.

إقرأ أيضا :  يهود مغاربة بالمكسيك: الملك رائد التضامن

وختاما، فرمضان هو شهر القرآن والتوبة والمحبة والتسامح والغفران والعتق من النيران، وهو كذلك شهر الأخلاق والبر والاحسان والخيرات والبركات.. فهو مدرسة تربوية عظيمة، تعمل طيلة 30 يوما على تطهير القلوب والنفوس من المشاعر السلبية من بغضاء وأحقاد لتحل محلها المشاعر الإيجابية من صدق وإخلاص ومحبة ورحمة وسلم وأمان، ومن لم يعانق هذه المعاني السامية لشهر رمضان الفضيل فليس له من الصيام إلا الجوع والعطش كما قال نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: “رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”، أو كما قال ﷺ في الحديث الصحيح في هذا المعنى، وبيَّن ﷺ أنَّ الذي يصوم ولا يضبط صيامَه حظُّه الجوع والعطش: “مَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابه”. فلرمضان سر عجيب وتأثير كبير على قلوب الناس وأفئدتهم وخصوصا من عرف قدره وحكمته وفلسفته وتعانق مع أجواء روحانيته ومعانيه؛ هذه الأجواء تنعش القلوب الجافة الميتة وتملأها حبا وسعادة وحبورا، فهذا الحب والعواطف الخلابة، التي يشعر كل منا أنه في أمس الحاجة إليها، بحيث كلنا نحبُّ أن نُحِبَّ، وأن نُحَبَّ، وبقدر ذلك نكون راضين عن أنفسنا أكثر، وكلما أحس الإنسان أنه مقبول من نفسه ومن الآخرين، كلما كان أكثر إيجابية وفعالية في هذه الحياة، ولهذا رمضان مدرسة حب عظيمة، وأعظم حب في الوجود هو حبُّ الله للعبد، وحبُّ العبد لله؛ لأنه سر الحياة، وإكسيرها النفيس، وحول قطبه النوراني تدور كل كواكب الحب الإنساني. وينمو هذا الحب في قلب الصائم الصادق من خلال عبادات وشعائر يقوم بها خلال هذا الشهر الفضيل؛ وبالتالي ترتفع درجة الإيمان عنده كما يرتفع منسوب الحب في أغلب قلوب المؤمنين تجاه خالقهم “جل جلاله” ومن خلاله تنمو حدائق الحب الأخرى بدءا بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو وسيلة وطريق إلى حب الله تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ”. وحب الوالدين؛ الذي منبعه حب الله تعالى كذلك: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” ثم حب المؤمنين وجميع الخلائق، من مخلوقات الله تعالى، فمدرسة رمضان تحاول أن تجمعنا على مائدة بساتين الحب والتضامن والعطاء والاعتصام بحبل الله المتين والتمسك بالقيم الإنسانية النبيلة، يقول تعالى في محكم التنزيل وهو أصدق القائلين “وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم”. الله تعالى، ومعنى الحب في الله تعالى، وهو أن يحب المسلم أخاه المسلم لا لمنفعة مادية، أو مصلحة شخصية دنيوية، وإنما يكون هذا الحب خالصا لوجه الله تعالى، فهذا الحب البريء يدخل صاحبه الجنة ويظله الله في يوم لا ظل إلا ظله، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجالا تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما نفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه”. ويقول النبي الكريم في حديث آخر “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” وللمحبة في الله ثمرات طيبة سيقطفها صاحبها يوم يلقى الله تعالى، ونقصد هنا بالمحبة في الله تعالى؛ أي المحبة الخالصة لوجه الله تعالى لا يريد صاحبها جزاء ولا شكرا، ولا مصالح دنيوية وراءها، وفي هذا السياق روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم “أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصَد اللّه تعالى على طريقه َملَكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك عليه من نعمة تريدها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله تعالى قد أحبك كما أحببته فيه”. ومن ثمرات المحبة أيضا: أنه من أحب في الله نال محبة الله له، ومن أحبه الله تعالى غفر له ذنوبه وأدخله الجنة جاء في حديث قدسي قال تعالى: “وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتبادلين في”، وفي حديث قدسي آخر “إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي لا ظل إلا ظلي”. وفي الصحيحين أيضا عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي متى الساعة؟ قال: “مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قال: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَوْمٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ”.

إقرأ أيضا :  المساطر العابرة للحدود لصعوبات المقاولة" قراءة في القسم التاسع من القانون 73.17 "

وختاما، فرمضان هو مدرسة الحب بامتياز؛ لهذا أغلب المسلمين فيه يتناسون خلافاتهم، ويتركونها على أبوابه، كم من إخوة أو أصدقاء أو أقرباء متخاصمين، يتصالحون حين يدخل رمضان، ويقررون أن ينبذوا خلافاتهم بصفاء وسلاسة لا تتحققان في شهر آخر، فيحل الرضا محل الخصام، وتعلو لغة الحب عوضا عن لغة الجفاء، وهذا هو المعنى الحقيقي للصيام في القرآن قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.

#وقفات #مع #المدرسة #الرمضانية #المباركة

زر الذهاب إلى الأعلى